حكمة الله في إنزال البلاء وأسباب دفعه في القرآن الكريم

مع نزول الابتلاءات -ومنها ما أصاب العالم من وباء كورونا- تُثار في النفوس بعضُ الأسئلة حول حكمة الله في تقديرها، وتأتي هذه المقالة لتسلِّط ضوءًا على بعض هذه الحكم التي أشار إليها القرآن الكريم، كما تتعرض لأسباب دفع البلاء التي ذكرها الله في كتابه.

تمهيد:

  من أصول الإيمان أن نعتقد أن الله تعالى حكيم في جميع أفعاله؛ لا يفعل شيئًا إلّا لحكمة تامّة؛ عَلِمَها مَنْ عَلِم، وجَهِلَها مَنْ جَهِل؛ ومن ذلك إنزال البلاء بالعباد؛ فاللهُ تعالى لا يُنْزِل البلاءَ عبثًا، حاشاه -سبحانه-، وإنما يُنْزله لحِكَمٍ عظيمة جليلة بيّنَها في كتابه وسُنة نبيّه -صلى الله عليه وسلم-.

وبعيدًا عن التأويلات الفجّة والساذجة التي شاعت بين الناس لالتماس حديث القرآن عن فيروس كورونا؛ في محاولة منهم للإجابة عمّا تثيره تلك الأزمة في عقولهم وأنفسهم من أسئلة عن حكمة إنزال هذا البلاء؛ فإننا ننظر إلى هذا الوباء بصورته الحقيقية؛ وهي أنه داء وبلاء يبتلي اللهُ تعالى به العباد لحِكَم عظيمة أخبرنا الله تعالى بها في كتابه؛ كما أخبرنا كذلك بأسباب دَفْعِه والنجاة منه.

وإذا كان إنزال البلاء إنما يقع كالداء؛ فمعلوم أن الله تعالى ما أنزل داء إلّا أنزل له شفاء؛ فإذا أنزل اللهُ تعالى بالعباد بلاء من داء أو مرض ونحوه فإنه يبيّن لهم أسباب دفعِه ورفعِه؛ وسوف نحاول في هذه المقالة أيضًا أن نبيّن أسباب دفع البلاء ورفع الوباء في كتاب الله تعالى، لا سيّما مع ما نتعرض له من ذلك الوباء الذي استشرى في العالم في هذه الأيام، وهو ما يسمى بوباء فيروس كورونا أو كوفيد 19.

الابتلاء سنة الله تعالى في خلقه:

الابتلاء لغةً هو الاختبار والامتحان، قال ابن منظور: «بلوت الرجل بلوًا وبلاءً، وابتليته: اختبرته...، والبلاء يكون في الخير والشر، يقال: ابتليته بلاءً حسنًا وبلاءً سيئًا[1]. وليس ثمة كبير اختلاف بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي.

وابتلاء العباد سُنة ثابتة ماضية من الله تعالى في جميع خلقه ليختبر صدقَ إيمانهم؛ قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 1- 3].

وقد أخبر اللهُ تعالى بتعدّد أنواع البلاء الذي يبتلي به عباده، وتنوّع صوره، وبين ما يقع في البلاء من الخوف والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك، ومعلوم أن نقص الأنفس بالموت إنما يكون لأسباب عديدة؛ منها الحروب والأوبئة كالطاعون وغيره من الفيروسات والأوبئة المهلكة، وحثّنا -سبحانه- على الصبر على ابتلائه لنا بذلك، وبيَّن حسن عاقبة الصابرين على البلاء.

قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155-157].

تعدد الحِكَم في الابتلاء:

من الآيات السابقة وغيرها ممّا سنورد في هذا المقال نتبيّن أنّ حِكَم الله -سبحانه- في إنزال البلاء بالعباد تتعدّد وتتنوّع بحسب الأحوال؛ فمن ذلك:

1. إنزال البلاء لرفع درجات المؤمنين الصابرين الصادقين:

فمن ذلك ابتلاء الله تعالى عباده المؤمنين الصادقين بالجهاد في سبيله، وفيه صنوف من الأذى والابتلاء بالقول والفعل، وأذى في الأموال بنقصها وهلاكها، وفي الأنفس بالجراحات والأسقام والأوجاع والقتل؛ قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[آل عمران: 186].

وبيّن أن ذلك الابتلاء إنما هو لحكمة اختبار صبرهم وعزيمتهم، وبه تُرفع درجاتهم، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 142].

قال الرازي: «اعلم أن حاصل الكلام أنّ حُبّ الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة، ...وأيضًا حبّ الله وحبّ الآخرة لا يتمّ بالدعوَى، فليس كلّ مَن أقـرّ بدين الله كان صادقًا، ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات؛ فإنّ الحبّ هو الذي لا ينقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء، فإنْ بقي الحبّ عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحبّ كان حقيقيًّا، فلهذه الحكمة قال: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة، والله أعلم»[2].

 وبنحو ذلك جاء قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة: 214].

كما أنّ الله تعالى قد ابتلى الأنبياء والمرسلين، وهم ليسوا عصاة ولا مذنبين فيُظنّ أنّ ابتلاءهم عقاب لهم، وقد غفر اللهُ لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، ومع ذلك كان -صلى الله عليه وسلم- أشدّ الناس بلاءً، وكان ذلك في أغلب أحوال الأنبياء لرفع درجاتهم وليتأسَّى الناس بصبرهم وحُسن بلائهم؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}[الأنعام: 34].

فما تعرض له النبي -صلى الله عليه وسلم- ومَن سبقه من الرسل لم يك عقوبة ولا مقابل ذنوب فعلوها؛ وإنما ذلك سُنة ماضية من الله تعالى يعقبها رفعة من الله لأوليائه بصبرهم على البلاء، وذلك بنصر رسله وإعزاز دينه وأهله العاملين به الصابرين في البأساء والضراء المجاهدين فيه.

قال أبو جعفر في سياق تفسيره للآية السابقة: «وهذا تسلية من الله -تعالى ذكره- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتعزيةٌ له... يقول -تعالى ذكره-: إنْ يكذّبك، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك، فيجحدوا نبوّتك، وينكروا آيات الله أنّها من عنده، فلا يحزنك ذلك، واصبر على تكذيبهم إياك وما تَلْقَى منهم من المكروه في ذات الله، حتى يأتي نصر الله... يقول: ولقد جاءك يا محمد مِن خبر مَنْ كان قبلك من الرسل، وخبر أممهم، وما صنعتُ بهم -حين جحدوا آياتي وتمادَوا في غيّهم وضلالهم-...، يقول تعالى ذكره: فانتظر أنت أيضًا من النصرة والظّفر مثل الذي كان منِّي فيمن كان قبلك من الرسل إذ كذبهم قومهم، واقتدِ بهم في صبرهم على ما لَقُوا من قومهم»[3].

ومن خلال ما سبق نتبيّن أنه ليس من الحتم أن يكون ما نزل بالمؤمنين من البلاء عقوبة؛ بل قد يكون خيرًا لهم؛ إمّا لرفع درجاتهم، وإمّا لتمحيصهم وإخلاص قلوبهم لله تعالى كما سيأتي، وإمّا ليزدادوا من الله تعالى قربًا وتضرعًا، وهذا يدعو إلى الرضا بقضاء الله تعالى الذي نزل بنا، ورضا العبد هو مفتاح رضا الرب؛ فإذا رضي الربُّ رفع الكرب.

2. إنزال البلاء لتمحيص[4] المؤمنين وتبيُّن الصادق من الكاذب:

إنّ الله تعالى لا يقبل من العباد أن يكون إيمانهم مجرّد دعوى فارغة من الدليل والبرهان؛ فلا بد لكلّ ادّعاء من بيّنة على صحته؛ قال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران: 154].

وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: 179].

والابتلاء هو الذي يميز الخبيث الذي يَكْفُر ويسخط ويقنط، من الطيّب الذي يؤمن ويرضى ويصبر.

قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 1- 3].

وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد: 31].

فالمؤمنون الصادقون هم الذين يجتازون اختبارات الإيمان دون شكّ أو ارتياب، مع الثبات والمجاهدة والمثابرة؛ قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 14، 15].

ومن خلال ما سبق نتبيّن أن من حِكَم هذه المحنة التي نحن فيها تمييز الصادق من الكاذب؛ فالصادق في إيمانه هو الذي يراجع نفسه ويتهمها، ويرضَى بقضاء الله تعالى ويراه عدلًا، فيرضَى اللهُ تعالى عنه حينما يرى صدقه ونصحه وخلوص قلبه لله تعالى ودينه القويم.

3. إنزال البلاء تكفيرًا لخطايا المؤمنين ومحوًا لسيئاتهم:

ليعلمْ العبد المؤمن أنه ما من بلاء نزل إلّا بذنب؛ فمن حكمة إنزال البلاء تكفير الخطايا ومحو السيئات؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزال البلاءُ بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتى يَلْقَى اللهَ وما عليه من خطيئة»[5].

قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}[الشورى: 30، 31].

فالله تعالى من رحمته يعفو عن كثيرٍ من الذنوب، ويعاقب العبد على بعضها ليرتدع وينزجر عن غيِّه، ويكون في ذلك تكفيرٌ لسيئاته؛ فالحِكَم قد تتعدّد فيكون البلاء عقوبة للمؤمن ويكون كفارة في الوقت نفسه كذلك -ما دام العبد يتلقَّى المصاب بنفس راضية مؤمنة- فعن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما يُصيب المسلمَ، مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حزنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشوكة يُشاكُها، إلّا كفَّر اللَّهُ بها من خطاياه»[6].

4. إنزال البلاء عقوبة للكافرين والمنافقين ببعض ذنوبهم في الدنيا:

قال تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[الرعد: 31].

وذلك أنّ أهل الكفر إذا ما عتوا وطغوا، ولم يكن للمؤمنين حيلة بهم؛ فإن الله تعالى يُظْهِر بعضَ آياته ليطمئن المؤمنين، وليرتدع مَن شاء الله مِن الكافرين، فيصيبهم ببعض القوارع والبلايا ببعض ما صنعوا.

وهنا تتجلّى قدرة الله تعالى في تحدي عُتاة الملحدين وطغاتهم حينما طغوا وتكبروا بما أوتوا من أسباب العلم والقوة في تحديهم بهذا الفيروس الضعيف الذي حيَّر العلماء والأطباء ووقف الجميع عاجزين عن صدِّه وردِّه لا يملكون له علاجًا، ولا يجدون منه فكاكًا.

وقد يرتدع بعضُ الكافرين بهذه البلايا، لكن يَسْدِر الباقون في غفلتهم حتى يفجأهم المصاب بما قدمت أيديهم؛ قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[القصص: 47].

وكما يُنْزِل اللهُ البلاء والمصائب بالكافرين ينزلها بالمنافقين كذلك ببعض ذنوبهم لعلّهم يرجعون؛ قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}[النساء: 62]، وقد جاءت هذه الآية في سياق الكلام عن المنافقين.

5. الاستعتاب للعباد لعلهم يرجعون ويتضرعون:

قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم: 41].

من أسباب إنزال الله البلاء وحكمته فيه معاقبة الناس ببعض ذنوبهم لعلّ ذلك يكون رادعًا لهم؛ لعلهم يرجعون عمّا هم فيه من الغيّ، ويتداركون أمرهم بالتوبة والتضرّع إلى الله تعالى؛ قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}[السجدة: 21، 22].

فهذه البلايا والأوبئة هي من جملة الآيات التي يذكِّر اللهُ بها عباده لعلهم يرجعون إليه؛ فالويل كلّ الويل لمن أعرض عنها، والسعيد هو من اتعظ بها فثاب إلى رشده، ورجع إلى ربه؛ فالاستعتاب إذن هو المقصد، وهذا المقصد لعلّه هو المقصد الأهمّ أو الأعظم؛ حيث يلوّح اللهُ تعالى لعباده ببأسه وشدّته لعلهم يتضرعون؛ فإذا أعرضوا مسّهم بعذاب ببعض ذنوبهم؛ وهذا يدلّ على أنه قبل نزول العذاب تكون هناك مرحلة الاستعتاب للعباد.

قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}[الأنعام: 42-44].

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[الأعراف: 94، 95].

قال ابن كثير -رحمه الله-: «وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} يعني: الفقر والضيق في العيش، {وَالضَّرَّاءِ} وهي الأمراض والأسقام والآلام، {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي: يَدْعُون الله ويتضرعون إليه ويخشعون.

قال الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} أي: فهلّا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا، {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: ما رقَّتْ ولا خشعَتْ، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: من الشرك والمعاصي.

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: فتحنا عليهم أبواب الرزق من كلّ ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم، عياذًا بالله من مكره؛ ولهذا قال: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} أي: من الأموال والأولاد والأرزاق، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} أي: على غفلة، {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} أي: آيسون من كلّ خير»[7].

فلعلّ هذه المرحلة التي نحن فيها هي مرحلة الاستعتاب للناس؛ حيث يلوّح الله لهم بقدرته على أخذه إياهم بأنواع من الابتلاءات، كما قال ابن كثير: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} يعني: الفقر والضيق في العيش، {وَالضَّرَّاءِ} وهي الأمراض والأسقام والآلام.

فما تلك الأمراض والأوبئة التي تنزل بالناس في صور مختلفة (فيروسات كبدية أو نقص المناعة، أو فيروسات الجهاز التنفسي؛ كسارس وكورونا وهانتا فيروس وغيرها) تتجدّد كلّ حين، كلّما ظنوا أنهم قادرون عليها أصابهم الله بما يعجزون عنه؛ يستعتبهم بذلك لعلّهم يراجعون أنفسهم ويُظهرون عجزهم وحاجتهم إلى ربهم، ويؤمنون أنه لا يكشف الضر عنهم إلّا هو: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 17، 18].

فإذا لم يتوبوا ويتضرعوا ويراجعوا دينهم استدرجهم الله إلى حتفهم وإلى شرّ غاية ونهاية؛ فيعافيهم من تلك البلايا، ويبدّل ما أصابهم من الأوبئة والأحوال السيئة أمورًا حسنة من رغد العيش وسعته: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[الأعراف: 95]، وحينئذ تأتي النهاية البئيسة المباغتة، ويأتي استئصالهم بالعذاب: {بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}[الأنعام: 44].

فالحذر الحذر يا عباد الله!

وعياذًا بالله أن نُستدرج لتلك الغاية التي أعدّها الله للكافرين؛ أمّا المؤمنون فهم الذين يدركون الحكمة من إنزال البلاء، ويعرفون أن الله تعالى يستعتبهم فيستعتبون، وإليه يتوبون.

أسباب دفع البلاء في كتاب الله تعالى:

بادئ ذي بدء لا بد أن نقرّر أن كثيرًا من الناس يخطئون في معالجة هذا الأمر؛ حيث ينظرون له من جانب واحد، وهو في الحقيقة له جانبان؛ لا يمكن إغفال أحدهما على حساب الآخر:

الأول: جانب الأسباب المادية الظاهرية.

الثاني: جانب الأسباب الإيمانية الروحية.

ونلاحظ أن أكثر مَن يتحدثون في أسباب دفع هذا البلاء الذي حل بنا في هذه الأيام بشكل خاص إنما يركز على الجانب الأول فقط من العناية بالنظافة وغسل الأيدي واستعمال المطهِّرات ولبس الكمامات والقفازات والابتعاد عن الزحام واعتزال الناس، ويتجاهلون أو يهمِّشون جانب الأسباب الإيمانية الروحية.

 والذي يستقرئ كتاب الله تعالى يجد أنه قد أَوْلَى الجانبين معًا العناية التامّة؛ فالقرآن مِنْ أوّله إلى آخره يحثّنا على الأخذ بالأسباب؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: 15]، وقال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم: 25]. والآيات في ذلك أكثر من أن تحصى؛ ومِن ثَم فلا تعارض بين الأمرين؛ بل إن المسلم يمتثل لتلك التعليمات طاعة لله تعالى الذي أمره بالأخذ بالأسباب؛ فليس ترك الأسباب من التوكل في شيء باتفاق أهل العلم.

وإذا كان الناس قد أفاضوا في الحديث عن تلك الأسباب؛ فلا بد أن يقترن الأخذ بتلك الأسباب بالأسباب الإيمانية من التوكل على الله تعالى، والتضرع إليه، وكثرة الاستغفار والتوبة والإنابة إليه، وإعلان الإذعان لقضائه والصبر على بلائه، والرضا بجميع قدره سبحانه؛ لأن المؤمن يوقن أن الأمر كلّه بيده سبحانه، وأنه لا يكشف الضر إلّا هو؛ قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 17، 18].

ونستطيع من خلال ما سبق بيانه مِن حِكَم وأسباب نزول البلاء أن نقف على أسباب دفعِه ورفعِه؛ فإذا كان من أسباب نزول البلاء استعتاب العباد لعلهم يتضرعون؛ كان من أسباب رفعه:

1. تضرع العباد إلى الله بكثرة الدعاء والتذلّل وإظهار الحاجة إليه:

قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186]، وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}[الأنعام: 43].

فإذا كان المقصد من إنزال البلاء هو ردع العباد عن غفلتهم وإعراضهم عن ربهم؛ كان رفع البلاء بما يحقق المقصد من إنزاله -وهو ضد ذلك الحال الذي نزل بسببه البلاء- وضد الغفلة إنما هو الإقبال على الله والتضرع إليه.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «وأحبُّ ما إليه انكسارُ قلب عبده بين يديه، وتذلّلـه له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقِلّة صبره، فاحذر كلّ الحذر من إظهار التجلّد عليه، وعليك بالتضرّع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذلّ والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم»[8].

2. الاستغفار والتوبة والإنابة والرجوع إلى الله:

وذلك أنه إذا كان نزول البلاء عقوبة لذنب ألمَّ به العباد؛ فلا شك أن الاستغفار والتوبة خير وسيلة لرفع تلك العقوبة والبلاء؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال: 33].

«قال ابن عباس: إنّ الله جعل في هذه الأمة أمانَيْن، لا يزالون معصومين مُجارِين من قوارع العذاب ما دامَا بين أَظهُرِهم: فأمانٌ قبضه الله إليه، وأمانٌ بقي فيكم، قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}»[9].

فما دام العبد يستغفر فهو في أمان من الله تعالى، ولن يَقْضِي له قضاءً إلّا وهو خير له.

وليعلم العبد أن الاستغفار مقرون في كتاب الله تعالى بالنعمة والقوة والزيادة والبركة؛ قال تعالى على لسان هود -عليه السلام-: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}[هود: 52].

وقال على لسان نوح -عليه السلام-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}[نوح: 10-12].

3. الصبر والثبات والرضا بالقضاء:

قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 142].

فإذا كان من حكمة إنزال البلاء أن يعلم اللهُ الصابرين -أي: يعلمهم عِلْم ظهور؛ بظهور صبرهم وصدقهم-؛ فمِن ثَم إذا صدّق العبدُ وصبر ورضي بقضاء الله تعالى فقد تحقّق المقصدُ والحكمة من نزول البلاء؛ فيرفعه الله تعالى لزوال سبب بقائه.

وكذلك إذا كان من أسباب نزول البلاء هو تمحيص المؤمنين واختبار إيمانهم وصبرهم وثباتهم فلا شكّ أن عباد الله إذا ما أذعنوا لله ورضوا بقضائه وصبروا على بلائه ولم يرتابوا في دينهم علم الله تعالى صدق إيمانهم؛ فكشف الله عنهم البلاء ورفع عنهم الوباء.

وفي الحديث عن عائشة، زوج النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أنها أخبرتنا: أنها سألت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون، فأخبرها نبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمةً للمؤمنين، فليس من عبدٍ يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا، يعلمُ أنه لن يصيبه إلّا ما كَتب الله له، إلّا كان له مثلُ أجرِ الشهيد[10].

4. تقوى الله تعالى في جميع الأمور:

قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق: 2، 3].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}[الطلاق: 4، 5].

ومن ثم فعلى المسلم في هذه المحنة -خاصّة- أن يتقي الله في جميع أموره بترك معاصيه، والعمل بطاعته، ومحاسبة نفسه، ومراقبتها؛ ففي ذلك يكون المخرج والنجاة واليسر، إن شاء الله.

5. الاجتهاد في العبادة:

قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح: 5-8].

فقد وعد الله تعالى باليُسر بعد العُسر، ولكنه جعل شرط ذلك نصب العبدِ وتعبه واجتهاده بالسجود بين يدي ربه متضرعًا متذللًا؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: «أي: إذا فرغتَ من مهامِّك فانصَبْ في طاعته وعبادته؛ لتكون فارغ البال»[11]. وقد أكّد الله تعالى مجيء اليُسر بعد العُسر، وأتى باليُسر منكّرًا مكررًا مرّتين، والعسر معرفة، ومن ثم فالعسر واحد، واليسر متعدد؛ ولذا ورَد «عن الحسَن قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا مسرورًا فرحًا وهو يضحك، وهو يقول: لن يَغلِب عسرٌ يسرَيْن، لن يَغلِب عسرٌ يسرَيْن: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}»[12].

فعلى المسلم في هذه الأيام أن يجتهد في العبادة: بالصلاة والصيام والقيام والذِّكر والصدقة ونحوها، عسى الله تعالى أن يرفع الغُمَّة عن عباده.

خاتمة:

لله تعالى في إنزال البلاء بعباده حِكَم عديدة؛ منها: الابتلاء لتمحيص المؤمنين ورفعِ درجاتهم، أو تكفير سيئاتهم، أو استعتاب العباد لعلّهم يرجعون، أو معاقبتهم وإهلاكهم بمعاصيهم، ولا يكون ذلك إلّا بعد إمهاله إيّاهم والحِلم عليهم؛ فإذا تمادَوا في غيّهم استدرجهم إلى العذاب من حيث لا يشعرون.

أمّا أسباب رفعِ البلاء وكشفِ الضر فتكون بمعرفة الأسباب التي نزل العذاب لأجلها، مما أفاض فيه المقال؛ ومِن ثَم يأخذ العبدُ حذره فيراجع نفسه بالاستغفار والتوبة والإنابة والتضرّع إلى الله تعالى، والثبات على دينه والصبر على قضائه والاحتساب فيه.

 

[1] لسان العرب، ابن منظور، (بلا)، ط3، دار صادر - بيروت (14/ 83).

[2] تفسير الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، ط دار إحياء التراث العربي - بيروت (9/ 375).

[3] تفسير الطبري، جامع البيان، ت: شاكر (11/ 335).

[4] التمحيص يدور حول معاني الابتلاء والاختبار وتخليص المعدن مما يشوبه ليرجع لأصله؛ فمعناه اختبار المؤمنين وتنقية قلوبهم وصقل إيمانهم.
ومنه: «مَحَصْتُه مَحْصًا: خَلَّصْتُه من كلِّ عَيْب». العين للخليل (محص) -تحقيق: مهدي المخزومي وزميله- (3/ 127). وانظر: مختار الصحاح، زين الدين الرازي: (محص)، عناية: د/ عبد الحميد هنداوي، دار البشير - الشارقة، ص582.

[5] مسند أحمد، ط. الرسالة، تحقيق: الأرناؤوط- وقال محققه: إسناده حسن. (13/ 248).

[6] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرض، باب كفارة المرض، رقم 5640، (7/ 114)، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، رقم 2572، (4/ 1992).

[7] تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي سلامة - دار طيبة للنشر (3/ 256).

[8] الروح، لابن القيم، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت (ص260).

[9] تفسير ابن كثير، تحقيق: سلامة (4/ 49).

[10] صحيح البخاري، كتاب الطب، باب: أجر الصابر في الطاعون (7/ 131) (ح 5734).

[11] تفسير ابن كثير، تحقيق: سلامة (8/ 255).

[12] ذكره ابن كثير بإسناد ابن أبي حاتم عن الحسن مرسلًا؛ (تفسيره)، تحقيق: سلامة (8/ 432).

الكاتب

الدكتور عبد الحميد هنداوي

أستاذ ورئيس قسم البلاغة والنقد الأدبي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وله عدد من المشاركات العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))