مفهوم الدعوة في القرآن
دراسة مصطلحية (2-2)

الكاتب : مراد المرابط
حول الدراسة المصطلحية لمصطلح الدعوة في القرآن الكريم، وبعد أن تعرَّض المقال السابق لمفهوم الدعوة ودلالاته، يأتي هذا المقال مكمِّلًا ومحاولًا الكشف عن خصائص الدعوة وأساليبها ومقاصدها في ضوء الطرح القرآني.

  تعدُّ قضية الدعوة من أبرز القضايا التي يجب أن ننشغل بها باعتبارها مهمّة رئيسة للفرد والمجتمع والأمة المسلمة، وقد أولى القرآنُ عنايةً ظاهرة بمسألة الدعوة، حيث أكثر من ذكرها وإيرادها، حتى إنّ الناظر في القرآن يلحظ سريعًا ما لمصطلح الدعوة من مركزية في النصّ القرآني، وقد قطعنا في المقالة السابقة[1] شوطًا في الدراسة المصطلحية لمصطلح الدعوة في القرآن؛ حيث قمنا بدراسة تعريف هذا المصطلح في إطار القرآن، وكذلك تأمّلنا دلالاته وطبيعة مفهومه، وقد انتهينا إلى أن مفهوم مصطلح الدعوة يتمثل في: «عملية إخراج الناس بأعيانهم إخراجًا وفق منهاج النبوّة من ظلمات واقعٍ بعينه إلى نور الله وشرعه المنزَّل على ذلك الواقع».

وفي هذه المقالة نواصل السبح في دراستنا لهذا المصطلح لنتأمل ما للدعوة من خصائص وأساليب ومقاصد...إلخ؛ حتى نكون على بيّنة من أمر الدعوة في ضوء الطرح القرآني وما يريد أن يبرزه القرآن في شأنها ويرسّخه في عقولنا في ممارستها.

ثالثًا: خصائص الدعوة:

من مزايا هذه الدراسة المختصرة لهذا المفهوم الذي يكتنز خيرًا كثيرًا، أنها تقصد إلى جني الثمار من نصوص كتاب الله تعالى في حديثه عن الدعوة والدعاء باعتبارهما أخوين لأمّ واحدة؛ ولذلك رصفت خصائص متعدّدة لهذا المفهوم فجاءت كالآتي:

- الربانية: ومن تجلياتها في كتاب الله أن تكون دعوة الداعي متميزة بالانتساب إلى الله تعالى عن طريق العلم به: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف: 108]، وقاصدة صناعة الإنسان الرباني الذي أحيا الله قلبه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال: 24].

- الفطرية: فالدعوة إلى الإسلام بعقيدته وأخلاقه وشريعته المباركة دعوة إلى الفطرة السليمة التي مهما ابتلي الإنسان بنوازع الشر فإنه يؤوب إليها يومًا ما؛ إمّا مختارًا فينهجها نهج حياة يلقى عليها الله سبحانه، وإمّا مضطرًا في حال الضيق والأزمات وانحسار آفاق الحلول؛ لأن الإنسان بطبعه نسبي في تفكيره وعلومه وقدراته؛ فمهما علَت به وسائله ومناهجه فإنه مدرك لحدوده التي لا يستطيع أن يتجاوزها مهما بلغ، فإقامة الوجه للدين فطرة، وهي بذلك خاصية الداعية الذي أقام وجهه سلفًا على هذه الطريق، فإذا خرج إلى الناس ينشر لآلئ الآي وسُبُحات الجمال فإنما هو متمثّل لخاصية من خصائص الدعوة المباركة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[الروم: 30].

- التدرج: وهذا التدرج نقرؤه في القرآن الكريم في سيرة مَن جعلهم الله محلًّا للاقتداء وهم الأنبياء والرسل، فكم تحملوا وصبروا ولم يضجروا؛ وتدرجوا بأقوامهم وجاهدوا أنفسهم في مخاطبة العقول حينًا، ومخاطبة القلوب والمواجيد أحيانًا أخرى، وهكذا نجد الله -عز وجل- يتحدّث عن سيدنا نوح -عليه السلام- فيكشف عن تدرّجه في الدعوة عبر الزمان: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}[نوح: 5]، وتدرّجه في الدعوة إلى المقصد العظيم والتوجيه إليه: {دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ}[نوح: 7]، والتدرج في الانتقال بين الجهر بالدعوة والإسرار بها: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}[نوح: 8، 9]، وهكذا تمثّل نبينا محمد بن عبد الله هذا التدرج في توسيع دائرة الدعوة بالانطلاق من أقرب المقربين: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء: 214، 215]، ثم توسّعت الدائرة شيئًا فشيئًا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب: 45، 46]، فكان هذا السراج مضيئًا على العالمين ومشرقًا على أفق كوني رحب: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}[يس: 70]، فاستحق بذلك أن تنحصر كمالات الرحمة في روحه المباركة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

- الهداية: وتلك الهداية تجدها خاصية ثابتة مركوزة في الدعوات المباركات، فهي تدعو بالهدى إلى الهدى، قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل: 125]، وقال سبحانه عن أقوم داعية إليه وأحرص إنسان على هداه استقامة ودعوة: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ}[الحج: 67].

- التأثير: فقد كان نبيّنا -عليه الصلاة والسلام- أحرص إنسان على قومه، يريد أن يصنعهم صناعة جديدة، فيولدوا ولادة إيمانية جديدة متجددة: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المؤمنون: 73]، و{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء: 57].

ونقرأ عشرات الصفحات في جهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوي بالكلمة الطيبة والصبر الجميل في إرادة واضحة للتأثير على المتلقِّين بما ينفعهم، من استشعار المعاني الإيمانية العظيمة والاستعداد وفق هذه المعاني لما ينتظرهم من امتحانات الدنيا والآخرة.

رابعًا: علاقات الدعوة:

1. علاقات الائتلاف:

ندرس ابتداء هذا الضرب من العلاقات باعتباره ركيزة في فهم الدعوة في القرآن الكريم، فقد جاءت الدعوة في كثير من السياقات مقترنة بالدعاء؛ ولذلك أَعتبِرُ أن الدعوة والدعاء وجهان لعملة واحدة؛ الدعوة عمل والدعاء سلاح، فهما مؤتلفان مجتمعان لا ينفكّان.

وهكذا نقرأ في سياق الإنذار؛ وهو لفظ مجاور للدعوة كما سلف، قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}[الأنبياء: 45]، ونقرأ في سياق النماذج الدعوية من الأنبياء والرسل أنهم جميعًا تسلحوا بالدعاء ولم يملّوا أو يشقوا به: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مريم: 4]، بل إنهم بعد استجابة الدعاء يقصدون الاستقامة مسارًا موصلًا إلى الله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[يونس: 89]، وبعد مسارعتهم إلى الخيرات -والدعوة من أكبر هذه الخيرات- يتوجهون إلى الله بالدعاء رغبًا ورهبًا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء: 90].

2. علاقات الاختلاف:

نقرأ اختلافًا بلون التضاد التامّ بين دعوتين:

أ. دعوة الله الكريم.

ب. دعوة الشيطان الرجيم.

فقد قَرَنَت كثير من آيات الذكر الحكيم بين الدعوة وبين الله -عز وجل- منها قوله تعالى:

- {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[البقرة: 221].

- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال: 24].

- {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس: 25]

- {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}[الرعد: 14].

- {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[إبراهيم: 10].

- {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء: 52].

- {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}[الروم: 25].

وهذه الآيات تتجلى لنا فيها معاني ثَرّة؛ فالله -عز وجل- له دعوتان؛ واحدة في الدنيا ولا تكون إلّا إلى قِيَم الحقّ والخير والجمال، والأخرى في الآخرة حيث انتهى التكليف وجاء وقت الحساب والجزاء، وهذه تستجيب لها الخلائق كلّها فلا اختيار بل الاضطرار.

فأما الدعوة في الدنيا فإنما إلى:

- الجنة/ دار السلام: باعتبارهما الجائزتين العظيمتين لكلّ من استجاب لدعوة الله.

- الحق: لأنه هو المصدر المطلق للحق فكان داعيًا إليه سبحانه.

- الحياة وما به قوامها: فهو سبحانه دعانا لما به حياة قلوبنا وقُوْتها الذي لا حياة لها بدونه.

- المغفرة والإمهال: فدعوة الرب المتعال قائمة على المغفرة والإمهال بما هو غفور وغفّار؛ يمهل عباده ويصبر عليهم لعلهم يعودون إلى رشدهم الفطري واستقامتهم المنهجية والعقلية.

● أمّا دعوة الشيطان الرجيم فهي أيضًا قائمة في هذه الحياة بموجب قانون الابتلاء: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: 35]، وإنك لتعجب أشد العجب عندما تجد أن القرآن الكريم فصّل في دعوة أشد المخلوقات شرًّا وهو الشيطان، فاعترف له القرآن بكونه يمارس الدعوة، ومن الآيات الشاهدة على ذلك:

- {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم: 22].

- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[لقمان: 21].

- {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6].

فالشيطان أيضًا يدعو، لكنه يدعو إلى الهاوية وإلى عذاب السعير عياذًا بالله.

ونجد هذه العلاقة التي وسمناها بالاختلاف أو التضاد بين دعوة الرسل ودعوة المشركين والمعرضين في القرآن واضحة جليّة؛ نكتفي في الإشارة إليها بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ}[القصص: 41]، وقوله: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}[غافر: 41].

خامسًا: ضمائم الدعوة:

ضُمّت إلى مصطلح الدعوة عدّة ضمائم، منها على وجه الخصوص:

- دعا إلى الله.

- ادع إلى سبيل ربك.

- لَتدعوهم إلى صراط مستقيم.

- دعوة الحق.

- يدعو إلى الجنة.

وكلّها تدلّ على ما يدعو إليه مَن انطلق منه فعل الدعوة؛ فإن كان منطلقًا في الحق والخير والجمال كانت الدعوة على شاكلته، وإن كان منطلقًا في الشر والفساد والإفساد كانت الدعوة بهذا الوزان؛ وكل إناء ينضح بما فيه.

سادسًا: مشتقات الدعوة:

باستقرائنا للمشتقات التي ورد بها المصطلح والتي سبق أن ذكرناها مجملة في بداية هذا المقال نجدها تتوزع إلى الأطياف الآتية:

المصادر والأسماء: كدعوة، دعاء، دعاءكم، دعاءه، دعائك، دعائهم، دعائي، دعوتك، دعوتكما، دعواهم، أدعياءهم. وكذا اسم الفاعل في: الداعي، داعيًا.

الأفعال: دعاكم، دعاني، دعانا، دعاه، دَعَوا، دعوت، دعوتكم، أدعوتموهم، دعوتهم، دعوهم، أدعو، أدعوكم، تدعو، تدعهم، تدعون، تدعونا، تدعوننا، تدعونني، تدعونه، تدعوهم، ندع، ندعو، ندعوه، يدع، يدعنا، يدعونا، يدعوك، يدعوكم، يدعون، يدعوننا، يدعونني، يدعونه، يدعوه، يدعوهم، ادع، ادعهن، ادعوا، ادعوني، أدعوه، ادعوهم، دعَوَا، دُعِي، دعيتم، تدعى، تدعون، يدعى، يدعون.

وواضح من هذا التقسيم غلبة المشتقات الدالّة على الأفعال بماضيها ومضارعها وأمرها، مما يدلّ على رسوخ فعل الدعوة وامتداده في الزمان، فهي ثابتة في الماضي باشتغالها على استمالة العقول والقلوب إلى شريعة علام الغيوب، وهي اليوم قائمة ودائمة ركنًا في الإنسان، فهو داعية بفطرته، ولا يخلو أيّ إنسان من دعوة؛ مادية كانت أو روحية، دينية كانت أو دنيوية، إيجابية كانت أم سلبية.

والدعوة أيضًا مستمرة في المستقبل غير متوقفة عند حدّ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما أشدّ آية التحذير من التولي عن الثبات والدعوة إلى الثبات والاستمساك بالعروة الوثقى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: 54].

سابعًا: قضايا الدعوة:

1. أساليب الدعوة:

أ. أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة:

 يوجه الحقّ سبحانه نبيّه -عليه الصلاة والسلام- ومن خلاله كلّ أمّته المتّبِعة له إلى وجوب اتّباع هذا الأسلوب في الدعوة، فهو بُراق الوصول إلى القلوب، وهو مفتاح القبول والدخول، وهو منهاج القاصدين وينبوع القول المبين، وسبيل الرفق بالعالمين. ولا شك أن الحكيم لا يلقي الكلام على عواهنه؛ فميزانه دقيق الوزن، ذهبي المعدن؛ ولذلك كان كلامه قصدًا ودعوته قصدًا على الوجه الذي ينبغي وفي الوقت الذي ينبغي، قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل: 125]، فالحكمة خطاب للعقل والقلب، والموعظة خطاب للقلب، والمجادلة خطاب للعقل.

ب. الفصاحة والبيان:

 إذ الفهاهة عائق تواصلي كبير، ومن لا يُبين يصعب أن يُفهِم خطاب رب العالمين، أرأيت إلى موسى -عليه السلام- كيف استعان بأخيه هارون لما رأى تفوّقه في الكلمة وإبانته للمعنى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[القصص: 34]، فكانت الكلمة سلطانًا وحجة قوية على الخلق، ومن كان مبينًا قد يكسب المعارك ولو كان ظالمًا، فكيف إذا اجتمع قصد العدل والخير والجمال مع فصاحة اللسان، آنئذٍ تكون القضيةُ عادلةً والمحامي أمينًا؛ أمَا رأيتَ إلى فصاحة بنت شعيب حين قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}[القصص: 25]، فاستعملت المؤكد ونسبت الدعوة إلى أبيها وبينت مقصد الرسالة وسرّها، وذلك في كلمات قليلة توحي ببراعة الإيجاز.

ج. الترغيب والترهيب بالقصص والأمثال:

فالله -عز وجل- استعمل هذا الأسلوب في دعوة الخلق، فقال سبحانه: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}[النور: 48، 49].

ويضرب الله للناس المثل بركاب البحر حين يغشاهم الموج العاتي كيف يدعون الله بصفاء وخشوع: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}[لقمان: 32].

2. مقاصد الدعوة:

أ. إخراج الناس من الظلمات إلى النور:

 وهذا مقصد وقفنا عليه في المفهوم، وفي قوله تعالى كذلك: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: 24]، فلا حياة في الظلمات، ولا حياة في العماية والضلالات والجهالات، ولذلك كانت الدعوة وسيلة هذا المقصد العظيم؛ وما أشرف الوسم الذي وسم به المولى سبحانه نبيّه -عليه السلام- والدالّ على هذا المقصد العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب: 45، 46]؛ والسراج مضيء للظلمة منير لما حوله، وهو تعبير مجازي عن التحوّل الكبير الذي يحصل للمدعو بعد أن تُخالط قلبَه بشاشةُ الإيمان. 

ب. إيجاد المؤمن الصالح والأمة الصالحة:

فالدعوة إلى الله -عز وجل- حرث وغراس في الإبّان، وسقي ورعاية في الزمان والمكان، وحصادها بناء الإيمان، واستقامة الأركان، وتخلق بمعالي قيم العمران.

ج. عمارة الأرض بالخير والعمل الصالح:

إنّ إيجاد المؤمن الصالح المشار إليه في المقصد السالف يفضي إلى هذا المقصد؛ لأن العمارة الحقّة لا تكون إلّا بمجموع هؤلاء المؤمنين، لكن هذه العمارة لها امتداد أفقي بعيد، وهو التشوف إلى الدار الآخرة والاستعداد لها وإعداد المدعوِّين إلى ما فيها من امتحانات وما أعدّه الوهاب سبحانه للفائزين في تلك الامتحانات؛ قال الحق -جل وعز-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء: 57].

د. تطهير الأرض من الفساد:

وهو مقصد عظيم من مقاصد الدعوة إلى الله تعالى، فالداعية يهفو قلبه إلى انتهاء الشر من الأرض وحلول الصلاح محلّه، وإن كان هذا الأمر عسير الوقوع إلّا أنه يبقى حلمًا في صدر الداعية، وكلّما حقّق منه جزءًا بإقامة صلاح وخير أو تقليل فساد وشر إلّا وطمح في تحقيق أكثر من ذلك. وهذا أمر لا يُعْجِز الحقّ سبحانه، لكنها سُنّة الابتلاء للبشر كلهم: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الأحقاف: 32].

3. النسق المعرفي لمفهوم الدعوة:

إن النسق هو عبارة عن بنية من المفاهيم والمجالات والموضوعات التي يربط بينها رابط جامع، وما دام الأمر كذلك فإننا حين نتحدث عن النسق نكون إزاء جانبين مهمّين:

- مجالات ذلك النسق/ البنية، أي: المفردات التي يدخل ضمنها أو يتشكل منها.

- الخيط الناظم الذي يربط بين تلك المجالات.

وبناء عليه فإنني سأحاول من خلال هذه النقطة الكشف عن تلك المجالات التي يدخلها مفهوم الدعوة كالآتي:

أ. الإيمان:

 وهو لبّ لباب مقاصد الدعوة، وهو سبب مجيء الرسالات وإرسال الرسل -عليهم السلام-، إذ كلهم جاؤوا بدعوة أقوامهم أولًا إلى كلمة التوحيد والإخلاص ونبذ عبادة ما سوى الله تعالى. إن الدعوة هنا مقصودها الأول هو تعريف الناس بربّهم بنصب البراهين الواضحة على ذلك مما لا يعارض الفطرة ولا العقل، والنصوص التي سبق عرضها دالة على هذا المجال أتم دلالة.

ب. مكارم الأخلاق:

 جاءت نصوص قرآنية شتى تكشف عن تلازم الدعوة مع مكارم الأخلاق، سواء ارتبط الأمر بأخلاق الداعية إلى الله تعالى، أو بأسلوب الدعوة، أو بالأخلاق المرجوّة فيمن تتوجه إليه الدعوة.

ج. الدعوة من داخل الأمة المسلمة:

وفي هذا نقف مع نصوص أخرى تبيّن واجب المسلمين في دعوة بعضهم بعضًا إلى المعروف ونهيهم عن المنكر، قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104].

خاتمة:

هذا غيض من فيض مفهوم الدعوة ودلالاتها في القرآن الكريم، فهي مفهوم مركزي في البناء العقدي والفكري والفلسفي والحضاري لأمة الإسلام، ولا شك أن هذه الدراسة سيتبعها توسّع في المفهوم وأبعاده، ودراسة لتاريخ تطوّره، وأسباب انكماشه، وأزمنة نشاطه وضموره وتراخيه، كلّ هذا وغيره سأخصّص له كتابًا إن يسّر اللهُ جمعه وتقييده، ونسجه كما أراده خالق القلم سبحانه.

وأختم بالإشارة إلى بعض الخلاصات الجامعة لهذا المصطلح المدروس:

- الدعوة إلى الله -جل وعلا- نداء، وكونها كذلك يدلّ على وجودِ بُعْدٍ عن الله وإعراضٍ عن ذكره بوجهٍ ما.

- نداء الدعوة ينطلق من؛ منادٍ هو الداعي، ويتجه إلى منادَى هو المدعو؛ يقول الشيخ الشاهد البوشيخي: «وإنما يبتدئ معنى الدعوة في الصدوق علينا حين نبتدئ في حثّ الآخرين على الخير الذي نحن به عاملون، وجذبهم إلى صراط الله الذي نحن له سالكون»[2].

- نداء الدعوة يحمل رسالة إلى المدعوّ هي الدعوة، تطلب منه الاتصال بمنادَى إليه وهو المدعو إليه؛ وهو الله -جل جلاله-.

- نداء الدعوة يهدف إلى وصل المدعو بالمدعو إليه الوصل التامّ المباشر.

- فعل الدعوة إلى الله لا ينفصل عنه الواقع بحال؛ ولذلك لم يرِد في القرآن كلّه في الصورة المصدرية المجردة عن الزمان والمكان والإنسان، وإنما ورد مربوطًا بالماضي والحاضر والمستقبل، باعتبار الإنسان فاعلًا له أو موصوفًا به.

وأرى أن من أهم ما ينبغي أن توصي به هذه المقالة المقتضبة عن هذا المصطلح الثري؛ أن يجاهد المسلم نفسه للدعوة إلى الله بالحال والمقال، وأن يجند طاقاته لهذا الغرض الاستشرافي المبارك الذي له ظلال وارفة على المجتمع وفعله الجماعي. والدعوة ليست وظيفة حصرية على أناس بأعيانهم؛ لأنّ الحال فيها قد يكون أبلغ، والأسوة المتحركة قد تؤثر أكثر من الأسوة المتكلمة، فلا مناص إذا تبين هذا المعنى من جعل همّ الدعوة مستصحبًا في كلّ الأعمال والمهن وعموم السير في الأرض.

اللهم اهدنا واهدِ بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى، وصلى الله على سيد الدعاة، والحمد لله ربّ العالمين.

 

[1]  على هذا الرابط: tafsir.net/article/5291.

[2] جريدة المحجة، العدد 300، مقال للدكتور الشاهد البوشيخي بعنوان: (مفهوم الدعوة إلى الله -عز وجل- ومصادرها): جمادى الثانية: 1429هـ/ يونيو 2008، مرجع سابق.

الكاتب

الدكتور مراد المرابط

حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))