مقدمة كتاب
الاتجاه التنقيحي في الدرس الاستشراقي المعاصر للقرآن الكريم
مجموعة ترجمات تتناول الاتجاه التنقيحي وفرضياته والاهتمامات البحثية المنبثقة عنه

نشر مركز تفسير كتابًا حول الاتجاه التنقيحي يضمّ مجموعة من الترجمات التي تبرز هذا نشأة الاتجاه وأهم فرضياته والنتائج البحثية المتولدة عنه، ننشر هنا مقدمة ومدخل هذا الكتاب.

الاتجاه التنقيحي في الدرس الاستشراقي المعاصر للقرآن الكريم

مجموعة ترجمات تتناول الاتجاه التنقيحي وفرضياته والاهتمامات البحثية المنبثقة عنه[1]

مقدمة:

  لطالما مثّلت المدونات الإسلامية التقليدية (السيرة النبوية، الأحاديث النبوية، كتب التاريخ)، والسردية التي تقدّمها هذه المدونات عن بدايات الإسلام وتاريخ القرآن وجمعه وتدوينه =مصدرًا أساسيًّا للدراسات الاستشراقية الكلاسيكية في دراسة الإسلام والقرآن، وصحيح أن الدرس الاستشراقي لم يتقبّل هذه المدونات كمصادر تاريخية موثوقة دون أيّ نقد، ولكن هذا التلقي النقدي لم يصل أبًدا في الطرح الاستشراقي إلى حدّ التشكيك الكامل في صلاحية هذه المدونات الإسلامية وأحقيتها التاريخية، فحتى مع تنامي «المقاربة النقدية» منذ نولدكه وبلاشير وشاخت وجولدتسيهر وتشكيكها في معطيات بعض المصادر الإسلامية كالسيرة والحديث، إلا أنّ القرآن قد ظلّ مع هذا مصدرًا موثوقًا لبناء تاريخ بدايات الإسلام وتاريخ ظهور النبوّة المحمدية؛ فكتاب (تاريخ القرآن، 1860) لنولدكه كان بالأساس تحقيقًا فيلولوجيًّا للقرآن من حيث كونه وثيقةً تاريخية معاصرة للنبوّة المحمدية وموثوقة كمصدر للتأريخ، وفيما تلا هذا نلاحظ اعتماد كثير من المستشرقين -مثل ريجيس بلاشير ومونجتمري وات ورودي بارت وغيرهم- على القرآن كمصدر أساسي للتأريخ للنبوّة ولبدايات الإسلام، وهو ما يعني بجلاء أن «المقاربة النقدية» في الطرح الاستشراقي ومع تشكيكها في بعض المصادر الإسلامية واحترازها من الاعتماد الكامل عليها -حيث ظلّ ثمة اعتماد جزئي وأحيانًا انتقائي عليها-؛ ظلّت متوافقة مع الأساس الأشمل والصورة الكلية التي ترسمها المدونات الإسلامية التقليدية لتاريخ القرآن، فاعتبرتها موثوقة في التاريخ الذي تضعه لعملية الجمع والتدوين وللإطار العام لهذه العملية، بل وكذلك مع بعض تفاصيل هذه الصورة التقليدية مثل قوائم ترتيب النزول، والتي أتاحت -حين انضاف لها الدراسة الأسلوبية الدياكرونية للنصّ- ربط القرآن بتاريخ النبوّة.

إلا أنّ هذا الأساس المنهجي ذاته والمتمثّل في الثقة في الصورة الكلية التي ترسمها المدونات الإسلامية عن تاريخ القرآن قد خضعَ للتشكيك الجذري في العقود الأخيرة من القرن الماضي، مع بروز ما يسمى باتجاه «التنقيحيين» أو «المراجِعِين»، حيث شكّك هؤلاء -ولأول مرةٍ ربّما- في صلاحية كلّ المدونات الإسلامية التقليدية، وكلّ المعارف الإسلامية على مستوى النتائج أو المناهج، وتم اعتبار كلّ هذا النتاج الطويل محض «تزييف وَرِع» للتاريخ، وأنه «قصص مقدّس رائع»، و«تاريخ خلاص» لا يمكن الثقة به أو الاعتماد عليه في بناء سردية متماسكة وموثوقة لتاريخ ظهور الإسلام وتاريخ القرآن، وبدلًا من اللجوء للمصادر الإسلامية التقليدية في التأريخ للإسلام والقرآن تم النزع عند بعضهم لاستخدام مصادر أخرى غير عربية؛ سريانية أو بيزنطية -تنتمي للقرنين السابع والثامن الميلاديين- باعتبار هذه المصادر غير العربية أكثر «موثوقية»، وكذلك تم اللجوء عند بعضهم للأدلة الأركيولوجية (النقوش - المخطوطات...) حصرًا لبناء سردية لتاريخ الإسلام.

وقد وصل الأمر بهذا الاتجاه التنقيحي والمصادر التي يلجأ إليها في دراسة ظهور الإسلام وتاريخ القرآن إلى افتراض سياق تاريخي وجغرافي مختلف لظهور الإسلام والقرآن عمّا هو معروف ومقرَّر، حيث أثار فرضيات جديدة حاول بها ملء الفراغ المعرفي الذي أحدثه إقصاء المصادر الإسلامية ومعطياتها، من مثل اعتبار الإسلام هوية متأخّرة لمجموعة من المسيحيين واليهود، أو اعتبار الإسلام لم ينشأ في مكة أصلًا، أو اعتبار القرآن محض تجميع لنصوص ليتورجية مسيحية ويهودية تم إنجازه في وقت متأخّر يرجع لآخر القرن الثاني الهجري.

ولا شك فقد كان لهذا الاتجاه بهذا التشكيك الجذري الشامل في المناهج والمصادر والنظريات حول تاريخ الإسلام والقرآن، والتي مثّلت أساس الاشتغال الاستشراقي لعقود طويلة، وبما افترضه كذلك من فرضيات جديدة =أثـرٌ بالغٌ على الدرس الاستشراقي وأُسسه ومناهجه وفرضياته، مما جعل نشأة هذا الاتجاه -رغم التقليل المنهجي منه من قِبل العديد من الدارسين الغربيين- منعطفًا بارزًا في تاريخ الاستشراق، وسببًا في وقوع ارتباكات عدّة في الطرح الاستشراقي، حيث بدَا في ضوء هذا الطرح بحاجة لمراجعة أُسسه المعرفية في التعامل مع المصادر الإسلامية وإعادة تشكيل الكثير من مرتكزاته، وهو الأمر الذي يجعل الوعي بهذا الاتجاه التنقيحي وبملامحه وبمرتكزاته المنهجية مدخلًا لفهم الكثير عن الحالة المعاصرة للدرس الاستشراقي وأهم الإشكالات على ساحة هذا الدرس.

وفي ضوء تحقيق الوعي بهذا الاتجاه الجديد فقد عقدنا مؤخرًا في (قسم الترجمات) بموقع تفسير ملفًّا حول هذا الاتجاه، نشرنا فيه عددًا من الترجمات لبعض البحوث والمقالات الغربية التي تكلّمت عن هذا الاتجاه، وقد حاولنا في اختيار المواد المنشورة تقديمَ تعريفٍ متكامل بهذا الاتجاه، ومناقشة لأهم فرضياته عن تاريخ القرآن وأبرز آثارها المنهجية على حقل الاستشراق، وكذا الاستجابة التي قدّمها هذا الحقل تجاه هذه التشكيكات والفرضيات، كما قُمنا بعملِ حواشٍ عديدةٍ للتعريف بالأعلام الواردة في المواد المترجَمة والتعليقات التوضيحية لبعض الأفكار وكذلك مناقشة بعض الأطروحات.

وفي ضوء تحقيق مزيد من الوعي بهذا الاتجاه التنقيحي فقد أحببنا نَشْره بصورة ورقية متكاملة؛ ليكون أكثر يُسْرًا في التعاطي معه وسهولةً في الوقوف عليه من قِبَل الدارسين؛ ومن ثم فقد رجعنا لهذه الترجمات فتأمّلناها ثانية واخترنا أجودها وأكثرها أهمية، وكذلك ضممنا إليها موادّ أخرى رأينا أهميتها في إنجاز الهدف وتحقيقه، وأيضًا حاولنا ترتيب المواد المترجمة وقسمتها بطريقة يتيسّر معها ترتيبُ النظر للاتجاه التنقيحي، وكذلك حذفنا بعض الحواشي التي وجدنا فيها تكرارًا وإعادةَ تقديمٍ لذات الأفكار، كما أضفنا حواشِيَ جديدةً ظهر لنا أهمية إضافتها.

وإنّا لنسأل اللهَ تعالى أن يكون هذا العمل نافعًا في الإسهام في ردمِ الفجوة بين الباحثين العرب في باب القرآن الكريم وعلومه في مختلف المؤسّسات والجامعات، وبين ما يُكتب في الغرب المعاصر بمختلف دوائره ومساحاته عن القرآن الكريم وعلومه، وأن يكون سبيلًا لإحداث مثاقفات جادّة مع هذه الكتابات الغربية، واللهُ الموفِّق.

مدخل:

سنحاول في هذا المدخل أن نعرض بإيجاز للملامح العامة للاتجاه التنقيحي ونشأته وآثاره، تاركين مهمّة توسعة هذه الرؤية وتعميقها للمواد المترجَمة ضمن هذا الكتاب، كما سنستعرض هذه المواد وطريقة تقسيمها وبعض الأمور المهمّة المتعلقة بها، وفيما يأتي بيان ذلك:

أولًا: نشأة الاتجاه التنقيحي:

بِغَضّ النظر عن التتبّع الدقيق لنشأة الاتجاه التنقيحي، إلا أنّنا نستطيع اعتبار كتاب المؤرخ الأمريكي جون وانسبرو (الدراسات القرآنية، مصادر ومناهج تفسير النصوص المقدّسة، 1977)، وكذلك كتاب اللاهوتي الألماني غونتر لولينغ (حول القرآن الأصلي، مقاربات لإعادة بناء التراتيل المسيحية قبل الإسلام في القرآن، 1974)[2]؛ من الكتب المركزية التي شكّلَت أساس هذه الانعطافة التي عُرِفت لاحقًا بالاتجاه التنقيحي أو اتجاه المراجِعِين، فقد قام هذان الكتابان؛ أولًا: بالتشكيك الكامل والجذري في مجمل المدونات الإسلامية التقليدية، وفي السردية التي تقدّمها هذه المدونات والتي كانت مقبولة في مجملها وصورتها العامة من قِبَل معظم المستشرقين. وثانيًا: طرَحَا افتراضات جديدة حول تاريخ القرآن وتاريخ نشأة الإسلام، كانت لبنة لعدد أوسع من الفرضيات حول هذا التاريخ مع أسماء أخرى، مثل: ألفرد لويس دي بريمار، ومايكل كوك، وباتريشا كرون، وجاكلين شابّي، ويهودا دي نيفو، وغيرهم، فأصبح هذان الكتابان بذلك معلمًا على بروز هذا الاتجاه التنقيحي.

فأمّا كتاب (الدراسات القرآنية، مصادر ومناهج تفسير النصوص المقدّسة)، فقد قدّم فيه المؤرخ الأمريكي جون وانسبرو نظرة مغايرة تمامًا لتاريخ تدوين القرآن، حيث اعتبر أنّ القرآن ليس كتابًا قد كُتب ودُوّن في عقد أو عقدين من قِبَل شخصٍ واحد كما كان الافتراض الاستشراقي الكلاسيكي بصورة عامة، بل إنه كتاب خضع لتاريخ طويل من التأليف أو التجميع ثم التحرير، حيث يتركّب بالأساس من مجموعة من البيريكوبس (مقاطع ليتورجية - شعائرية) مسيحية أو يهودية، وأن عملية التأليف بين هذه البيريكوبس استمرّت حتى أواخر القرن الثاني الهجري، وقد بالغ وانسبرو في رؤيته هذه في مقارنة تاريخ تدوين القرآن بتاريخ تدوين الكتاب المقدّس، وظهور المصحف بظهور النصّ الماساوراتي العبراني[3]، متجاهلًا كلّ المدونة التقليدية الإسلامية التي استند على صورتها العامة معظمُ المستشرقين، معتبرًا إياها -بحدّ عبارته- مجرّد «تزييف وَرعِ» و«تاريخ خلاص» كُتب في فترة لاحقة.

أمّا كتاب لولينغ فيحمل فرضية تجعل القرآن كتابًا متراكبًا من عدّة طبقات: حيث تمثّل الطبقة الأولى والأعمق فيه مجموعة ترانيم مسيحية تخصّ مسيحيي مكة فيما قبل النبي محمد، ثم طبقة ثانية تحوي التعديلات التي تمّت في عهد النبي محمد لتنسجم مع مبادئ الإسلام الناشئ، ثم طبقة ثالثة تحوي الإضافات الإسلامية في عهد النبي محمد، ثم طبقة رابعة تحوي تلك التعديلات التي قام بها المسلمون في ما بعد النبي محمد أثناء تحرير الخط العربي.

وتقوم هذه الفرضية على أساس التخرُّص بوجودٍ مسيحيٍّ منظَّمٍ (وجود جماعة مسيحية أو يهودية- مسيحية منظَّمة) في مكة عشية الإسلام، وكذلك على الافتراض بكون تجريد المصاحف الأولى كان خِلْوًا من أيّ تقليد شفهي مصاحب للنصّ المكتوب يضبط قراءته، مما يتيح إمكان التعديل والتغيير خطئًا أو وهمًا أو في سبيل الضبط في إطار قواعد العربية[4].

وكتاب اللاهوتي الألماني كان أحد الأساسات المهمّة لتزايد الاهتمام بعلاقة القرآن بالمسيحية السريانية وأَخْذ هذه المساحة شكلًا مغايرًا عن الحديث عن وجود «تأثّر قرآني» بمدوناتها، وقد تمثّل هذا الشكل المغاير في التشكيك في عربية القرآن من الأساس، والتخرُّص بوجود «قرآن أصلي» تم تعديله لاحقًا، حيث قدّم كريستوف لكسنبرج قراءة للقرآن باعتباره كُتب أصلًا بـ«لغة مزيج» بين السريانية والعربية، مما يعني أن القرآن العربي هو تحريف لـ«نصّ أصلي» لا أكثر.

بعد هذه الكتابات تتابعت الكثير من الكتب التي تنطلق من ذات المنطلقات، والتي تصل لفرضيات واسعة حول تاريخ القرآن والإسلام، ربما أشهرها كتاب (الهاجريون، دراسة في المرحلة التكوينية للإسلام) لباتريشيا كرون ومايكل كوك، وهو الذي يَعتبر أن الإسلام لم ينشأ في مكة، وأن المسلمين لم يُعرفوا بهذا الاسم في بداية وجودهم كأمّة، بل هي تسمية لاحقة كان غرضها صنع هوية انفصالية لمجموعة من المسيحيين أو اليهود العرب.

ثانيًا: آثار بروز الاتجاه التنقيحي:

كما ذكرنا، فقد ظلّت الملامح العامة على الأقلّ لتاريخ القرآن كما تقدِّمها المصادر الإسلامية التقليدية تمثّل أساسًا للاشتغال الاستشراقي الكلاسيكي سواء «الوصفي» أو «النقدي»[5]، مما يجعل التشكيك الجذري في تاريخ القرآن كما تقدّمه المدونات التقليدية يعدّ زعزعة لهذا الأساس، وتبرز هذه الزعزعة في ذلك التجاور الدرامي الذي يعرضه شتيفان فيلد في محاضرته (تاريخ القرآن، لماذا لا نحرز تقدمًا؟) بين جملة رودي بارت -أحد أهم المستشرقين الألمان وأحد أهم مترجمي القرآن وشارحيه للألمانية-: «إنَّ صورة النبي محمد التي رسمها وما زال يرسمها المستشرقون الأوروبيون حتى الآن ترتكز على أُسس سليمة، وإذا طالها شيءٌ من التعديل فما هو إلا تفصيل الكلام فيها، ولا يكاد يسفر التفسير الجديد والمنهجي للقرآن عن اكتشافات جديدة ومثيرة». وبين جملة باتريشيا كرون -أحد أهم حاملي لواء التنقيحية-: «إنّ مشهد التاريخ الإسلامي تعرَّض على مدار أكثر من قرن لريح عاصفة أتت على بنيانه فتركته رُكامًا ورمادًا؛ ليترسب في مسارات فرعية امتزجت بأنقاض ليست من جنسه تذروها الرياح»، فبين صورة الثقة الكاملة مع بارت وبين صورة الرماد مع كرون يبرز تمامًا الأثر الذي خلّفه هذا الاتجاه بتشكيكه في تاريخ القرآن الكريم والذي ظلّ متقبلًا كمصدر موثوق للتأريخ لظهور وبدايات الإسلام.

لقد تزعزعت بهذا التشكيك -وكما يقول فرد دونر- الأسئلة الرئيسة لحقل الدراسات القرآنية الغربية؛ من مثل: (1- هل ممكن تعقُّب (القرآن الأصلي)؟ 2- ما طبيعة هذا القرآن في أصله، (هل كان يعِظ مجموعة من المسلمين بالفعل أم لا، هل هو نص ليتورجي، هل هو نص شفهي)؟ 3- بأيّ لغة كُتب القرآن؟ 4- كيف انتقل لنا القرآن (قضايا الجمع والتحرير)؟ 5- كيف نشأت سلطته، وعلاقة هذا بالجمع؟)[6]. فأضحى هذا الحقل، وكما تقول أنجيليكا نويفرت، «فوضى ميؤوس منها»، وأصبح التشكيك المجاني في مجمل النظريات عن تاريخ الإسلام والقرآن سببًا لفراغ معرفي مريع فتح بدوره الباب للعديد من الفرضيات المثيرة كما يقول شتيفان فيلد.

كذلك فقد تزعزعت المناهج في هذا الحقل؛ فمع اعتبار المدونات الإسلامية مجرّد تزييف ورِع، فقد أضحت لا تصلح إلا للتحليل الأدبي، ولم تَعُد بعدُ مصادر تصلح للتحليل التاريخي لبناء تاريخ ظهور الإسلام وبداياته وتاريخ القرآن، مما فرض التوجه لمناهج الإبيغرافيا؛ فازداد الاهتمام بالنقوش وبالمخطوطات القرآنية وبالمصادر غير العربية لبناء هذا التاريخ، من هنا نفهم هذا الاهتمام المتزايد بالمخطوطات المكتشفة حديثًا مثل مخطوطات صنعاء، والتعامل غير العلمي معها، والذي وقع فيه بعض الباحثين الذين قفزوا سريعًا لاستنتاجات واسعة جرّاء غياب الثقة في المدونات التقليدية والمحاولة المحمومة لملء الفراغ بفرضيات لا تجد لها سندًا منطقيًّا، كذلك وجدنا نقوشًا معروفة منذ قرون تخضع لتفسيرات جديدة في ضوء هذه الرؤية المشكّكة، واستعمال متسرّع للمصادر غير العربية، في تجاهل تام لما يمكن استفادته من بريمار عن كون هذه المصادر كذلك لا تسلم من اعتبارها كتابة «دينية» و«خلاصية» حظ التاريخ فيها قليل[7]، كذلك فلم يصبح بإمكان أيّ باحث سوى أن يُعيد تأسيس نظرته المعتمدة على المدونات التقليدية من جديد في مواجهة تنامي هذا التشكيك التنقيحي، وغيرها من آثار تظهر للناظر في ما سيأتي من ترجمات.

ثالثًا: المواد المترجمة:

في ضوء النشأة الحديثة نسبيًّا للاتجاه التنقيحي، وكذا تنوّع فرضياته وتعدّد منطلقات باحثيه واختلاف مناهجهم، فربما لم تبرز في الساحة الغربية كتابات ودراسات عُنيت بتتبّع هذا الاتجاه وبيان نشأته ومناهجه وفرضياته وآثاره؛ لذا فقد حاولنا -من أجلِ تقديم صورة متكاملة نسبيًّا عن هذه الاتجاه- القيامَ بترجمة عددٍ من المواد المتنوّعة التي ارتأينا أنّ من شأنها تغطية معظم الأبعاد التي تهمّ الدارِسين للوقوف على مرتكزات هذا الاتجاه، مع التنبّه لما تحمله بعض هذه المواد أحيانًا وبطبيعة الحال من مساحات اهتمام خاصّة قد لا تندرج ضمن عملية تسليط الضوء على هذا الاتجاه، من أجلِ هذا وفي أثناء النشر الإلكتروني السابق لهذه الترجمات، تم وضع مقدّمات لكلّ مادة على حِدة تعمل على إبراز موضعها ضمن الإطار العام للاتجاه والفائدة التي تتحصّل بإدراجها فيه، وكذلك تعمل على تسليط الضوء على اشتغالها في المساحات الأخرى ومدى أهميته في العموم، وقد آثرنا الإبقاء على هذه المقدّمات هاهنا ليبرز للقارئ قبل الولوج لكلّ مادة موضعها ضمن السياق العام للكتاب، وأهميتها في ذاتها كذلك.

ومن أجلِ أن يقدّم هذا الكتاب الفائدة المرجوة من ورائه، فقد تم تقسيم مواده إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: يتعلّق بنشأة الاتجاه التنقيحي وموقعه ضمن حقل الاستشراق المعاصر وأثره على هذا الحقل، وفيه ثلاث ترجمات:

- «تفكيك كولونيالية الدراسات القرآنية»، للأمريكي جوزيف لمبارد.

- «تاريخ القرآن؛ لماذا لا نحرز تقدُّمًا؟»، للألماني شتيفان فيلد.

- «مقاربة نصّ مؤسِّس؛ الإشكالات، الحلول، الحدود؛ انطلاقًا من دراسة القرآن»، للفرنسية آن سيلفي بواليفو.

القسم الثاني: يتعلّق بالاتجاه ذاته وفرضياته في تاريخ القرآن، والجدل النقدي حولها، وفيه ست ترجمات:

- «الشاهد المغفول عنه؛ دليل على التدوين المبكّر للقرآن»، للأمريكية إستل ويلان.

- «تدوين القرآن؛ تعليق على أطروحتي بورتون ووانسبرو»، للسويسري غريغور شولر.

- عرض كتاب: «الدراسات القرآنية: مصادر ومناهج تفسير النصوص المقدّسة، لجون وانسبرو»، للهولندي كارول كيرستن.

- عرض كتاب: «قراءة آرامية - سريانية للقرآن، مساهمة في فك شفرة لغة القرآن، للكسنبرج»، للفرنسي فرنسوا دي بلوا.

- عرض كتاب: «البدايات المبهمة، بحث جديد حول أصل الإسلام وتاريخه المبكّر، تحرير: كارل أوليج وجيرد بوين»، للبريطاني جيرالد هوتنج.

- «مقارنة بين التحليل البلاغي والنقد التاريخي لجون وانسبرو وغونتر لولينغ»، للبلجيكي ميشيل كويبرس.

القسم الثالث: يتعلّق بإلقاء الضوء على تنامي الاهتمام بالمخطوطات القرآنية وبالنقوش كذلك في الطرح الغربي في ضوء هذه الفرضيات الجديدة التي أثارها الاتجاه التنقيحي، وفيه ثلاث ترجمات:

- «ضبط الكتابة؛ حَوْلَ بعضِ خَصَائِص مَصَاحِف الفَتْرَة الأُمَويَّة»، للفرنسي فرنسوا ديروش.

- «قرآن الحجارة؛ إحصَائِيَّاتٌ نُقُوشِيَّةٌ، وتَحْلِيلَاتٌ أوَّلِيِّة»، للفرنسي فريدريك إمبرت.

- عرض كتاب: «مَصَاحِف الأُمَوِيّين، لديروش»، للبريطاني ياسين دتون.

 

[1] صدر هذا الكتاب عام 1443هـ - 2022م، ويقع في مجلد واحد، وعدد صفحاته (423) صفحة.
ورابط الكتاب على متجر تفسير: tafsirstore.net/pNbpBr

[2] سيأتي لاحقًا تعريف بهذين الكتابين في المواد المترجمة.

[3] النصّ الماسوراتي: هو نصّ العهد القديم العبري الذي تم اعتماده كنصّ موحّد حسمًا للخلافات السابقة بين المخطوطات، وقد تكثف العمل عليه من قِبَل الماسورتيين أو حفّاظ التقليد منذ القرن السابع تقريبًا، وتم الانتهاء منه في القرن العاشر الميلادي.

[4] هذا الافتراض الأخير لا يخالف فقط حقيقة وجود مثل هذا التقليد كما هو ثابت، وإنما كون وجود مثل هذا التقليد أساسيًّا في ظلّ فرضية تجعل القرآن -أصلًا- كتابًا شعائريًّا يُتلى في مناسبات ليتورجية محدّدة ومتكرّرة، فكأنّ هذا الكلام يعني أن القرآن كان كتابًا متداولًا شفهيًّا في الشعائر، وفي نفس الوقت لا يوجد تقليد شفهي لتناقله يضبط قراءته في ظلّ إمكانات تعديل غير منضبطة!

[5] هذه الاصطلاحات هي للتونسية حياة عمامو في تقسيمها لتعامل المستشرقين مع المدونات الإسلامية التقليدية، وقد أطلقت على التنقيحيين «المقاربة التشكيكية». للتوسع، انظر: السيرة النبوية؛ مناهج، نصوص وشروح. حياة عمامو، التنوير، بيروت، ط1، 2014، المحور الأول: السيرة النبوية بين المصنفين القدامى والدارسين المحدثين، ص51 وما بعدها.

[6] القرآن في أحدث البحوث الأكاديمية، تحديات وأمنيات، فرد دونر، ضمن كتاب (القرآن في محيطه التاريخي)، تحرير: جبريل سعيد رينولدز، ترجمة: سعد الله السعدي، منشورات الجمل، بيروت- بغداد، ط1، 2012.

[7] اهتم بريمار في كتابه: (تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ) بعرض موقف أكثر تعقيدًا في التعامل مع المصادر العربية وغير العربية ومدى إمكان الاعتماد عليها في كتابة تاريخ بدايات الإسلام بشكلٍ موثوق، حيث نجده فيما يخصّ المصادر العربية يواجه القول بإمكان تجاهلها التام كمحض «قصص ديني رائع» عبر الإلحاح على أن «الروايات ذات المقصد الديني والتي تشكّل (تاريخ الخلاص) أبعد ما تكون عن التغطية الكاملة لحقل الإنتاج الأدبي ذي الهدف التاريخي؛ فكثير من المرويات والمعلومات الأخرى يمكن أن تكشف لنا عن وجود فضول معرفي حقيقي لدى الناقلين، فالسيرة الشائعة لنبيّ الإسلام حتى لو كانت تضغط بكلّ ثقلها على الإنتاج الكتابي الخاصّ بتلك الفترة ليست هي الفضاء الوحيد الذي يتحرّك فيه ناقلو الأخبار والروايات»، كما نجده فيما يخصّ المصادر غير العربية يواجه التصوّر بكونها مصادر شديدة الموثوقية -تمثّل طوق نجاة للباحث بعد رفضه كلّ المصادر العربية- عبر إلحاحه على عدم إمكان نزع سمة الدينية والخلاصية عن هذه الكتابات ولا إهمال كون هدف الدمج داخل سردية دينية خلاصية هو أحد أهداف كاتبيها. انظر: تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ، لويس دي بريمار، ترجمة: عيسى محاسبي، دار الساقي، بيروت، ط1، 2009، ص26، وراجع كذلك اشتغاله في ذات الكتاب حول مصطلح «الهاجريزم» في المصادر غير العربية، ص40، 41، 42.

المؤلف

إعداد/ قسم الترجمات بموقع تفسير

مسئولو قسم الترجمات بموقع مركز تفسير للدراسات القرآنية

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))